ياسين الحاج صالح
الإدانة الفورية الواسعة من قبل الطيف المستقل والمعارض في سورية للعملية الإرهابية المفترضة التي وقعت في دمشق صباح السبت 27 سبتمبر مستحقة وبديهية، فالقتل العشوائي للمدنيين لا يمكن أن يكون وسيلة لأي غاية تسوغه، والاستهتار بحياة مواطنين غافلين أو اعتبارهم «فرق عملة» في صراع محتمل مع النظام هو بمنزلة استهتار بحياة السوريين جميعا. كان يمكن لأي منا أن يتصادف مروره في الموقع الذي جرى فيه الانفجار جنوب دمشق، فيذهب ضحية سلوك إجرامي، لم يهتم مدبروه حتى بإعلان من يكونون وما هي مقاصدهم.
الإرهاب الأعمى في كل مكان من حيث أنه لا يعرف ضحاياه ولا يبالي بهوياتهم وسيرهم، أعمى بصورة مضاعفة هنا: تغتال أطرافا غير معروفة؛ أناسا لا تعرفهم ولا تعرف عنهم شيئا، لسبب غير معروف. على هذا النحو يظهر الإرهاب أشبه بكارثة طبيعية تداهم ضحاياها من دون سابق توقع أو قدرة على تفاديها، وعماه وعشوائيته وخفاء وجهه على هذا النحو هو ما يجعل منه مقوضا للأمن بصورة أشد جذرية مما لو كان المرء يعرف شيئا عن الجناة المحتملين وتوجهاتهم وأغراضهم.
ومن هذا الباب فإن لحيازة معرفة أوسع بالفاعلين المحتملين مفعولا أمنيا إيجابيا نازعا للقلق والخوف، فيما يعزز الافتقار إلى أي معرفة عنهم من التأثير الإرهابي لأفعالهم، ويبث في عموم الناس شعورا بالانكشاف والعجز، كأنهم قش في مهب الريح.
نسوق هذه الاعتبارات لنقول إن مفهوم الأمن مركب من عنصرين، معرفة الأخطار ومصادرها ودوافعها من جهة «وقد يتمثل أصل الدافع الإنساني للمعرفة في كشف المخفي أو المحجوب توقيا لأخطاره المحتملة»، ثم القدرة العملية على تحييدها أو درئها أو التغلب عليها من جهة أخرى. لنقول أيضا إن السلطات السورية لا تخفف من قلق مواطنيها حين هي تمتنع عن تزويدهم بنتائج «تحقيقاتها» (جهودها المفترضة لكشف «الحقيقة») وتزويدهم بالمعلومات المتاحة عن عمليات مست أمن البلاد غير مرة في السنوات الأخيرة. كان آخرها اغتيال العميد محمد سليمان في أغسطس الفائت، وقبلها اغتيال المسؤول الأمني في حزب الله اللبناني عماد مغنية في فبراير الفائت. إما أن السلطات نفسها لا تعرف، وسكوتها يعني في هذه الحالة إخفاء عجزها وقلقها هي ذاتها؛ وإما أنها تعرف، لكنها تقدر أن إعلان ما تعرفه ينال من سمعتها وهيبتها في عين مواطنيها، فيمس بصورة غير مباشرة أمنها الذي تعليه على أي شأن آخر.
فكأنما السلطات لا تشعر بالأمن إلا إذا حجبت المعلومات الخاصة بالأمن الوطني عن عموم المواطنين، ويبدو أن المذهب الأمني السائد في سورية لا يكتفي بالفصل بين الأمن الوطني وأمن المواطنين، بل ينزع إلى مطابقة الأمن الوطني وأمن النظام، وينظر إلى عموم المواطنين الذين كمصدر محتمل للخطر.
وحيال إرهاب بلا وجه وأمن بلا لسان، ترى من أين تأتي الطمأنينة والثقة للجمهور العام، الذي يدفع دوما الثمن الأكبر لوقائع الإخلال بالأمن، والذي تتركه السلطات في الظلام؟
والمفارقة أن سياسة التكتم هذه تقترن مع كلام لا ينتهي عن الأخطار والتهديدات والمؤامرات، وسعي لا يكل إلى تجييش الناس ضدها، لكن دون تنويرهم بشأنها. الحصيلة المتوقعة، والمتحققة، لهذا المسلك المتناقض هي السلبية العامة، وشيوع نظريات تسوغ هذه السلبية، مثل القول إن الحوادث نتاج صراع داخلي في مراتب السلطة، أو أنها مرتبطة بمنازعات أجهزة أمنية إقليمية، يذهب الضحايا الغافلون «آثارا جانبية» لها. فحين لا تتاح الحقيقة للجمهور فسوف يصنع حقائقه الخاصة التي تمتزج فيها التقديرات والأهواء والإشاعات، لكن يوحدها النازع الإنساني العميق إلى فهم الغوامض وتفسيرها ورفع الستور عنها.
ليس واضحا إن كانت السلطات ستثابر على نهج حجب الحقيقة عن الجمهور بخصوص الجريمة الأخيرة. يأمل المرء ألا تفعل، فالواقعة تبدو مختلفة عن حوادث أمنية سابقة، سواء من حيث عدد ضحاياها، أو من حيث كون جميعهم (أو أكثرهم) مدنيين، أو من حيث ما يبدو من استنفار حقيقي للسلطات أعقب الجريمة. هذا لم يمنع منذ الآن، يومين بعد الفعلة الإرهابية، من ظهور نظريات تدرجها في سياق تصفية حسابات داخلية أو للتخلص من شريك مزعج. ولا يسع السلطات تكذيب تقديرات كهذه من دون تقديم نتائج تحقيقاتها بشفافية تامة. هذا على أي حال ما يقتضيه حق عموم المواطنين السوريين في الحقيقة في ما خص شأنهم العام.
*نقلا عن جريدة "الجريدة" الكويتية |